[مقطع من رواية "اطفال الندى" للكاتب محمد الأسعد عن دار الفيل القدس، 2013. اضغط هنا للمقابلة مع الكاتب]
"حين كان الأطفالُ يعطشون كنّا نجمع الندى بأكفّنا من أوراقِ الشجر ونسقيهم". وحين اختلفت الطرقُ وتشعّبتْ في الظلمةِ بين الصخور والشجرِ الكثيف، قال والدي: "اتبعوني فأنا أعرف الطريق". لقد ضلّ الكثيرون طريقهم واصطدموا بكمائن يهودية متربصة عند آبار المياه، ومنعطفات الطرق المعروفة. أما والدي فقد اختارَ طريقاً وعراً بين الشجر متجنباً كل الطرق المعروفة. وهكذا انفصلنا عن بقية أهل أمّ الزينات في الطريق إلى الدالية شمالا. ويبدو أن هذا الإنفصال سيسود الرواية كلها، فهنا تتوقف أمّي لتعلن عن خلافات بينها وبين نسوة من العائلة، وينصح والدي الذي تجوّل كثيراً بين القرى باعتزال الجميع واختيارِ طريق لا ماءَ فيه سوى الندى.
وتقول أمّي:
"كنّا نشاهد جثثاً على جوانب الآبار، وفي الطرق"
وأسمعُ في صوتها رنّةَ العزلة كأنها جاءت بعد أن حدث كلّ شيء هي التي أيقظها في منتصف الليل صوتُ البارود فتطلّعتْ إلى أمّ الزينات فإذا هي شعلة من النار. وأيقظت الحاج الذي لم يكن قد حج بعد، وأخذت طريقها إلى البلد ذاهبة إلى بيتِ أهلها.. بيت أبو طالب لتعرف ماذا يحدث، كأن هذا البيت نداءٌ غريزي استيقظ في تلك اللحظة، فهرعتْ تبحث عن جواب فيه. وكانت البلدة خالية تماماً. وفوجئت بأخيها يطلُّ من سطح الدار ويصرخ بها:
"ماذا تفعلين هنا؟ لقد غادر الجميع.. ارجعي.. ارجعي"
كان الخالُ وحيداً ببندقيته. ولا أدري ماذا كان يفعل هناك بعد أن أُخليت البلدة سوى أن لوثة أصابته. تقول أمّي:
"كان قد وضع النساء والأطفال في البيت، وأعلن أنه سيطلق عليهم الرصاص إذا اقتحم اليهود البيت".
كان صلباً وعنيداً كما تروي عنه، فقد مزّقَ رصاصُ الانكليز كتفيه. ومع ذلك تحامل على نفسه وحمل رفيقاً جريحاً استنجدَ به، ونجا به من التطويق في أمّ الدرج.. تلك المعركة التي تسمّيها الموسوعاتُ معركة أمّ الزينات، وتسمّيها أمّي واقعة أمّ الدرج، وتحمّل مسؤولية التقصير فيها ليوسف أبو درّة. ولا أجد حين أقرأ شيئا من كلّ هذا. فلا هذا الخال موجود، ولا حسن الدبّور، ولا عشرات الأسماء التي كانت هناك. ولا يبدو أن بشراً محدّدين قد عانوا من التطويق في تلك الليلة، ولا سُمعت حشرجاتهم ولا وُجدت آثار أقدامهم ولا صهيل خيولهم. إن التواريخ لا توقظ البشر بل تستخدمهم حين تغيّبهم، فيتبدّدون مثل غيومٍ عابرة، وسترجع أمّي بالطبع من البلدة الخالية، وتنحدر إلى الوادي وتأخذنا والنعاسُ يغالبنا في الظلام.. يتقدمنا الوالد تاركين الخال على سطح داره وصوت صراخه يتردّد في أذنيها.
لم نذهبْ فجأة هكذا، ونتبدّد في الوعرِ كما يقال في الرواية بل اتخذنا طريقنا إلى الدالية شمالا كما اتخذ أهالي القرى المحترقة طريقهم في هذا الاتجاه أو ذاك.. يتنادون عن بعدٍ ليعّرفوا بأنفسهم وليتجنبوا المفاجآت، ورغم أنهم يعرفون الطرقَ جيداً إلا أن هذه المعرفة لم تسعفهم فقد التهمتْ الطرقَ فجأة كائناتٌ خرافية وغيلان لبدتْ وراء الصيافير والمنعطفات وما عاد هناك طريقٌ مألوف أو ثابت تحت القدمين.
يحشرج الضبعُ بصوتٍ كالهدير، ولكنه حين يواجهكَ ويلمس منكَ رهبةً وخوفاً، يصرخ بوجهكَ فتنضبع، وتضيع من قدميكَ الطرقُ، ويحيطكَ الضبابُ، فلا تعرف إلى أين تتجه.. حتى أنكَ لتفقد قدميكَ ويديكَ. أما رأسكَ فيمتلئ بالهواءِ. وتتحرك مسلوبَ الإرادة.. تشقّ طريقكَ وعيناكَ على الضبعِ دون أن تراه، ولكنكَ تحسّ به أمامكَ يسير ويتوقف لينظر إليكَ بعينيهِ الصفراوين ثم يسير قفزاً وأنتَ وراءه، ويشقّ لك طريقكَ. لقد ضُبعتَ إذن بهدير المترليوز وأصوات "كاديما" والضجيج الذي يبعثه انهيار السلاسل الحجرية في الظلام.
والدي وحده امتلكَ رأسه في تلك الليلة، ليقودنا إلى الدالية بعيداً عن همهمات الضباع وهي تلبد في العتمة لتهبّ بوجوه القرويين التائهين وتقودهم إلى كهوفها.. ربما لأنه يعرف القصة جيّداً، أو ربما لأنه كما يَروي صادف الضبعَ مرّة، فضبعه، ولذا لم يعد بإمكان هذا الكائن التغلب عليه.
هي مرّة في العمر، وحين يكون حظّكَ جيّداً يكون مدخل المغارة واطئاً، فينسلّ الضبعُ داخلاً، ويصطدمُ رأسكَ بالمدخل، ويسيلُ دمكَ، فتستيقظ، وترى نفسكَ بعد أن أتيتَ بالعجب العجاب واقفاً في مكان لا تدري كيف جئتَ إليه، وأي قوّة دفعتكَ لتسلّقهِ، فتتناول بندقيتكَ وتصوّبها إلى الضبع المذهول من انقلاب الوضع، وتطلق الرصاص.. وتطلق، فيتكوم الضبعُ على نفسه مزمجراً، مكشّراً عن أنيابهِ بينما تتقلص قوائمه الخلفية القصيرة وتمتدّ قوائمه الأمامية الطويلة حافراً التراب بمخالبه. لقد صحوتَ إذن. ولكن من يدري كم ستمتدّ هذه الرحلة وراء الضبع؟ أي البلاد يمكن أن يقطعها المضبوع والناس تنظر إليه راكضاً وراء الضبع وهو يَظْلع أمامه؟
إني أتخيّل المشهد كما لو كان قد بدأ منذ تلك الليلة واستمرتْ فصوله بينما يزدادُ عددُ المراقبين لرحلة المضبوع سنة بعد سنة، ولا أحد يتقدم فيضربه بحجر ولا أحد يوقفه على الأقل أو يقضي على الضبع الذي يتحوّل إلى صديق أو رفيق.
إن لنا ضباعنا قبل أن نولد، ولنا هذا المشهد الذي سنكون أبطاله فيما بعد، ففي الدالية نجد الكثيرين قد وصلوا قبلنا، وبدأوا يتفقدون الذين ضاعوا في الطريق.
ولا أحد يعرف هل أكلتهم الضباع أم سلبتهم عقولهم وما زالوا يجرون هنا أو هناك لا يعرفون ما يفعلون، أم ظلّوا في البلد كما ظلّ الخال العنيد. لم يحن الوقتُ للبكاء بعد.. ذلك البكاء الذي سينطبع في الروح إلى الأبد، ولم يحن الوقتُ للتفجّع، فالصغارُ بحاجة إلى ما يأكلون في هذا النهار الغريب الذي يأتي والفلاحون خارج حبّات الجوز لأول مرّة في حياتهم، خارج ملحهم ومائهم، ونهاراتهم المألوفة، وخارج أنفسهم أيضاً. وهنا يحدث ذلك الموقف الغريب الذي جعل من رحلة ليلة واحدة ألف عام مما يعدّون، فقد قرّرت الأمّ العودة إلى البيت على الأقل لتوفير الطعام لنا، وصحبها أخي الكبير ووالدي في طريق العودة ليلا. الطرق الوعرة نفسها، ولكن بلا أطفال يصرخون بين ساعة وأخرى طالبين الماء، فتميل إليهم الأكفُّ بقطرات الندى.
كان الجبلُ ملغوماً بهمهمة الضباع، والظلال تتخذ أشكالا تتغير بين لحظة وأخرى، ولا صوتَ يُسمع غير حفيف الشجر وهم يمرّون.
وهناك في وحشة الوادي لا يبدو أن أحداً قد اقترب من البيت، فالظلام يحيط به ويخفيه. وحده الحمامُ كان مستيقظاً حين دخلوا، فبدرتْ منه حركة ما زالتْ أمّي تتذكرها. رفرفَ الحمامُ على وجوه وأكتافِ القادمين، وانتشرَ في العتمة رفيفُ الأجنحة وصوتُ الهديل كأنما طلع النهار وبدأتْ الطبيعة يومها في منتصف الليل.
وسيكون هذا الانقلابُ في دورة الليل والنهارِ رفيقنا منذ ذلك اليوم، ولن تعود للزمن الشمسيّ سيطرة. وسواء أكان الوقتُ ليلا أم نهاراً فللحمامِ رفرفة، وللشجر اخضرارٌ، ولليقظة أن تستمرّ، ولأمّي أن تعيد القصة حيثما شاءتْ، وأمام من يصدّق أو لا يصدّق بأن حمام البيت يعرف أصحابه ولا يعترف بالوقت.
إنهم سادة الوقتِ الذي غاب لأنهم غابوا، وكذلك كان أمرُ الندى والأيام والصيافير، فهو ندى فلسطين ورياح فلسطين وصيافيرها وبلاطات الشقّاق.
وأفكّرُ بهذا الحمام الذي رفرفَ في تلك الليلة مغادراً عادته القديمة لأول مرة منتشياً بالقادمين الذين تركوه للسكون فجأة، وأفكّر بأخي وهو يردّ عن كتفيه الحمامَ، باحثاً عن كيس من الطحين أو جرة زيتون، وأمّي وهي تحمل أواني الطبخِ والوالد وهو يتخبّط في العتمة باحثاً عن شيء يحمله.
وأفكّرُ ببيتنا وهو يهوي في القاعِ وأنا أصعد إلى البلدة، بهذه الحركة المهموسة التي ضجّ بها يحميه بعده عن الشارعِ المعبّد، وانعزاله عن البلدة المرتفعة، وأراقب الحركة اللاهثة والسريعة، فلا وقتَ يمكن تضييعه.. والأرضُ تنبض تحت حشرجة الضباع والشجرُ يصيبه السكون حيث تنتشر الغيلان وحيفا تحوّلتْ إلى فحمة سوداء في السفح، والبحرُ قاتم.
هذه هي الليلة الثانية من الليالي السبع التي بدأنا نعدّها.. الليلة التي التهمتْ فيها الغيلان الطرقَ كلّها، وتقطّعتْ بنا السبل.
وسينحدر الخالُ الذي لا أدري كيف تخلّى عن عناده وصحب عائلته إلى الدالية حاملا بندقيته، إلى مكمنِ الضبع نفسه، وسيتحوّل إلى كمين متحرك يتنقل من صخرة إلى صخرة ومن شجرة إلى شجرة مطمئناً إلى أن بضع رصاصات في البندقية وحزامين من الذخيرة يتقاطعان على صدره تكفي لإيقافِ قطيع من اليهود يتغلغل على هامش الوجود، ويتعلّق بمخالبه بالسناسل الحجرية ويطلّ على نيران القرويين ولا يجرؤ على الاقتراب. إنهم منتشرون الآن في التفاصيل كلّها. ومع ذلك فهو لا يراهم مباشرة، ويظن خالي أن البلدة التي خلتْ منهم بعد ساعات من اجتياحها، وأن الآبار المهجورة إلا من الجثث، وأن أحراج الزيتون التي عاد السكونُ وأخفاها، هي خير دليل على أنهم لن يعودوا مرة أخرى. لقد ابتلعهم الليل، ولم ينتشروا كما في الحكايات مثل الجراد، ولا جاء الوقتُ الذي تحدث فيه الواقعة الكبرى، حين يصل الدمُ إلى الركب، وتخوض الخيلُ في الدماء، ويقتصّ فيه المسلمون من اليهود، فلا مهرب لهم، حين يحاولون الاختباء وراء الحجارة والشجر، فينادي الحجر.."يا مسلم هذا يهودي تعال واقتله"، وتنادي الشجرة: "هذا يهودي تعال يا مسلم واقتله". لا.. لم يأت الوقتُ بعد، فهذا يحدث في آخر الزمان، ونحن مازلنا في أوله.
ويدور خالي حول بيت الانكليزي، ويتفحص الطرقَ حوله. لا أحد مستيقظ في حيفا. الهدارُ وحده يرتفع مثل شبح بألف كوة سوداء، ولكنه يبدو غافلا عن وجود خالي الذي يقترب من السور الخلفي، ويقفز ويفاجئ الانكليزي بقامته المديدة، وأحزمة الرصاص المتقاطعة على صدره.
يقول خالي:
"كنتُ أعرفه منذ زمن طويل.. مستر جلهار هذا. وبعد أن فرك عينيه واستيقظ تماماً، دعاني إلى الدخول، فجلستُ وبندقيتي بين يدي. وسألني:
" ماذا جاء بك في هذا الوقت؟"
قلتُ:
"أريد أن أعرف ما أفعل الآن. احتل اليهود البلد. وها أنا أمامك حائر، لا أعرف ماذا أفعل"
ضحك الانكليزي وقال:
"هل أنتَ مجنون.. تأتي إلى حيفا، وقد احتلها اليهود!"
"قل ماذا أفعل؟"
تحيّر الانكليزي، وقال لي بهدوء:
"اسمع طالب. كل شيء انتهى. لقد باعتكم الدول الكبرى. هي أشياء لن تفهمها الآن، ولكن عليك أن تمضي"
ويضيف خالي:
"وخرجتُ إلى الظلام، واتخذتُ طريقي إلى الدالية"
وأقول كأنني أمام تلميذ صغير:
"كان الانكليزي على حق. ولكن الخطأ ليس خطأكَ أنتَ وأبو درّة وبقية الفلاحين. كانت أرضكم تُسرق منكم. وكان غيركم يقايض الانكليز واليهود"
ولم يقلْ شيئاً.. هذا الذي شارف السبعين من عمره بكتفين ممزقين لا عظمَ فيهما كما تؤكد أمّي من غزارة الرصاص الذي انهالَ عليه في أمّ الدرج. وخجلتُ حين صمتَ ولم يقل شيئاً، فقد كان الرجل مازال هناك، يتنقل شاباً ببندقيته وأحزمة الرصاص. ورأيتُ في نظرته شيئاً لا تحدّده أي كلمة أكتبها ولا تستطيع. لقد كنتُ أحاول سلبه ما كان عليه بقسوة متناهية.. أنا الذي صار لي أقرباء من الكلام، وهو الذي كان أقرباؤه الندى والصخور.